فصل: سنة إحدى وستين وأربعمائة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر استيلاء تميم على مدينة تونس:

في هذه السنة سير تميم، صاحب إفريقية، عسكراً كثيفاً إلى مدينة تونس، وبها أحمد بن خراسان قد أظهر عليه الخلاف.
وسبب ذلك أن المعز بن باديس، أبا تميم، لما فارق القيروان والمنصورية ورحل إلى المهدية، على ما ذكرناه، استخلف على القيروان وعلى قابس قائد بن ميمون الصنهاجي، وأقام بها ثلاث سنين، ثم غلبته هوارة عليها، فسلمها إليهم وخرج إلى المهدية، فلما ولي الملك تميم بن المعز بعد أبيه رده إليها، وأقام عليها إلى الآن، ثم أظهر الخلاف على تميم والتجأ إلى طاعة الناصر بن علناس بن حماد، فسير إليه تميم الآن عسكراً كثيراً، فلما سمع بهم قائد بن ميمون علم أنه لاطاقة له بهم، فترك القيروان وسار إلى الناصر، فدخل عسكر تميم القيروان، وخربوا دور القائد، وسار العسكر إلى قابس، وبها ابن خراسان، فحصروه بها سنة وشهرين، ثم أطاع ابن خراسان تميماً وصالحه.
وأما قائد فإنه أقام عند الناصر، ثم أرسل إلى أمراء العرب، فاشترى منهم إمارة القيراون، فأجابوه إلى ذلك، فعاد إليها فبنى سورها وحصنها.

.ذكر ملك شرف الدولة الأنبار وهيت وغيرهما:

في هذه السنة سار شرف الدولة مسلم بن قريش بن بدران، صاحب الموصل، إلى السلطان ألب أرسلان، فأقطعه الأنبار، وهيت، وحربى، والسن، والبوازيج، ووصل إلى بغداد، فخرج الوزير فخر الدولة بن جهير في الموكب، فلقيه: ونزل شرف الدولة بالحريم الطاهري، وخلع عليه الخليفة.

.ذكر عدة حوادث:

في العشر الأول من جمادى الأولى ظهر كوكب كبير، له ذؤابة طويلة، بناحية المشرق، عرضها نحو ثلاث أذرع، وهي ممتدة إلى وسط السماء، وبقي إلى السابع والعشرين من الشهر وغاب، ثم ظهر أيضاً آخر الشهر المذكور، عند غروب الشمس، كوكب قد استدار نوره عليه كالقمر، فارتاع الناس وانزعجوا، ولما أظلم الليل صار له ذوائب نحو الجنوب، وبقي عشرة أيام ثم اضمحل.
وفيها، في جمادى الآخرة، كانت بخراسان والجبال زلزلة عظيمة، بقيت تتردد أياماً، تصدعت منها الجبال، وأهلكت خلقاً كثيراً، وانخسف منها عدة قرى، وخرج الناس إلى الصحراء فأقاموا هناك.
وفيها، في جمادى الأولى، وقع حريق بنهر معلى، فاحترق من باب الجريد إلى آخر السوق الجديد من الجانبين.
وفيها ولدت صبية بباب الأزج ولداً برأسين، ورقبتين، ووجهين، وأربع أيد، على بدن واحد.
وفي جمادى الآخرة توفي الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي، ومولده سنة سبع وثمانين وثلاثمائة، وكان إماماً في الحديث والفقه على مذهب الشافعي، وله فيه مصنفات أحدها السنن الكبير، وعشرة مجلدات، وغيره من التصانيف الحسنة، وكان عفيفاً، زاهداً، ومات بنيسابور.
وفي شهر رمضان منها توفي أبو يعلى محمد بن الحسين بن الفراء الحنبلي، ومولده سنة ثمانين وثلاثمائة، وعنه انتشر مذهب أحمد، رضي الله عنه، وكان إليه قضاء الحريم ببغداد بدار الخلافة، وهو مصنف كتاب الصفات أتى فيه بكل عجيبة، وترتيب أبوابه يدل على التجسيم المحض، تعالى الله عن ذلك، وكان ابن تميمي الحنبلي يقول: لقد خريء أبو يعلى الفراء على الحنابلة خرية لا يغسلها الماء. ثم دخلت:

.سنة تسع وخمسين وأربعمائة:

.ذكر عصيان ملك كرمان على أرسلان وعوده إلى طاعته:

في هذه السنة عصى ملك كرمان، وهو قرا أرسلان، على السلطان ألب أرسلان.
وسبب ذلك أنه كان له وزير جاهل سولت له نفسه الاستبداد بالبلاد عن السلطان، وأن صاحبه، إذا عصى، احتاج إلى التمسك به، فحسن لصاحبه الخلاف على السلطان، فأجاب إلى ذلك، وخلع الطاعة، وقطع الخطبة.
فسمع ألب أرسلان، فسار إلى كرمان، فلما قاربها وقعت طليعته على طليعة قرا أرسلان، فانهزمت طليعة قرا أرسلان بعد قتال، فلما سمع قرا أرسلان وعسكره بانهزام طليعتهم، خافوا وتحيروا، فانهزموا لا يلوي أحد على آخر، فدخل قرا أرسلان إلى جيرفت وامتنع بها، وأرسل إلى السلطان ألب أرسلان يظهر الطاعة ويسأل العفو عن زلته، فعفا عنه، وحضر عند السلطان فأكرمه، وبكى وأبكى من عنده، فأعاده إلى مملكته، ولم يغير عليه شيئاً من حاله، فقال للسلطان: إن لي بنات تجهيزهن إليك، وأمورهن إليك، فأجابه إلى ذلك، وأعطى كل واحدة منهن مائة ألف دينار سوى الثياب والإقطاعات.
ثم سار منها إلى فارس فوصل إلى إصطخر، وفتح قلعتها، واستنزل واليها، فحمل إليه الوالي هدايا عظيمة جليلة المقدار، من جملتها قدح فيروزج، فيه منوان من المسك، مكتوب عليه اسم جمشيد الملك، وأطاعه جميع حصون فارس، وبقي قلعة يقال لها بهنزاد، فسار نظام الملك إليها، وحصرها تحت جبلها، وأعطى كل من رمى بسهم وأصاب قبضة من الدنانير، ومن رمى حجراً ثوباً نفيساً، ففتح القلعة في اليوم السادس عشر من نزوله، ووصل السلطان إليه بعد الفتح، فعظم محل نظام الملك عنده، فأعلى منزلته، وزاد في تحكيمه.

.ذكر عدة حوادث:

في المحرم منها توفي الأغر أبو سعد، ضامن البصرة، على باب السلطان بالري، وعقدت البصرة وواسط على هزراسب بثلاثمائة ألف دينار.
وفي صفر منها وصل إلى بغداد شرف الملك أبو سعد المستوفي، وبنى على مشهد أبي حنيفة، رضي الله عنه، مدرسة لأصحابه، وكتب الشريف أبو جعفر بن البياضي على القبة التي أحدثها:
ألم تر أن العلم كان مشتتاً، ** فجمعه هذا المغيب في اللحد

كذلك كانت هذه الأرض ميتةً، ** فأنشرها فضل العميد أبي سعد

وفيها، في جمادى الأولى، وصلت أرسلان خاتون، أخت السلطان ألب أرسلان، وهي زوجة الخليفة، إلى بغداد، واستقبلها فخر الدولة بن جهير الوزير على فراسخ.
وفيها، في ذي القعدة، احترقت تربة معروف الكرخي، رحمة الله عليه، وسبب حريقها أن قيمها كان مريضاً، فطبخ لنفسه ماء الشعير، فاتصلت النار بخشب وبواري كانت هناك، فأحرقته واتصل الحريق، فأمر الخليفة أبا سعد الصوفي، شيخ الشيوخ، بعمارتها.
وفيها، في ذي القعدة، فرغت عمارة المدرسة النظامية، وتقرر التدريس بها للشيخ أبي إسحاق الشيرازي، فلما اجتمع الناس لحضور الدرس، وانتظروا مجيئه، تأخر، فطلب، فلم يوجد.
وكان سبب تأخره أنه لقيه صبي، فقال له: كيف تدرس في مكان مغصوب؟ فتغيرت نيته عن التدريس بها، فلما ارتفع النهار، وأيس الناس من حضوره، أشار الشيخ أبو منصور بن يوسف بأبي نصر بن الصباغ، صاحب كتاب الشامل، وقال: لا يجوز أن ينفصل هذا الجمع إلا عن مدرس، ولم يبق ببغداد من لم يحضر غير الوزير، فجلسس أبو نصر للدرس، وظهر الشيخ أبو إسحاق بعد ذلك، ولما بلغ نظام الملك الخبر أقام القيامة على العميد أبي سعد، ولم يزل يرفق بالشيخ أبي إسحاق حتى درس بالمدرسة، وكانت مدة تدريس ابن الصباغ عشرين يوماً.
وفيها، في ذي القعدة، قتل الصليحي، أمير اليمن، بمدينة المهجم، قتله أحد أمرائها وأقيمت الدعوة العباسية هناك، وكان قد ملك مكة، على ما ذكرناه سنة خمس وخمسين، وأمن الحجاج في أيامه، فأثنوا عليه خيراً، وكسا البيت بالحرير الأبيض الصيني، ورد حلى البيت إليه، وكان بنو حسن قد أخذوه وحملوه إلى اليمن، فابتاعه الصليحي منهم.
وفيها توفي عمر بن إسماعيل بن محمد أبو علي الطوسي، قاضيها، وكان يلقب العراقي لطول مقامه ببغداد، وتفقه على أبي طاهر الأسفراييني الشافعي، وأبي محمد الشاشي وغيرهما. ثم دخلت:

.سنة ستين وأربعمائة:

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة كانت حرب بين شرف الدولة بن قريش وبين كلاب بالرحبة، وهم في طاعة العلوي المصري، فكسرهم شرف الدولة، وأخذ أسلابهم، وأرسل أعلاماً كانت معهم، عليها سمات المصري، إلى بغداد، وكسرت، وطيف بها في البلد، وأرسلت الخلع إلى شرف الدولة.
وفيها، في جمادى الأولى، كانت بفلسطين ومصر زلزلة شديدة خربت الرملة، وطلع الماء من رؤوس الآبار، وهلك من أهلها خمسة وعشرون ألف نسمة، وانشقت الصخرة بالبيت المقدس، وعادت بإذن الله تعالى، وعاد البحر من الساحل مسيرة يوم، فنزل الناس إلى أرضه يلتقطون منه، فرجع الماء عليهم فأهلك منهم خلقاً كثيراً.
وفيها، في رجب، ورد أبو العباس الخوافي بغداد عميداً من جهة السلطان.
وفيها عزل فخر الدولة بن جهير من وزارة الخليفة، فخرج من بغداد إلى نور الدولة دبيس بن مزيد بالفلوجة، وأرسل الخليفة إلى أبي يعلى والد الوزير أبي شجاع يستحضره ليوليه الوزارة، وكان يكتب لهزارسب بن بنكير، فسار، فأدركه أجله في الطريق فمات، ثم شفع نور الدولة في فخر الدولة بن جهير، فأعيد إلى الوزارة سنة إحدى وستين في صفر.
وفيها كان بمصر غلاء شديد، وانقضت سنة إحدى وستين وأربعمائة.
وفيها حاصر الناصر بن علناس مدينة الأربس بإفريقية ففتحها وأمن أهلها.
وفيها، في المحرم، توفي الشيخ أبو منصور بن عبد الملك بن يوسف، ورثاه ابن الفضل وغيره من الشعراء، وعم مصابه المسلمين، وكان من أعيان الزمان، فمن أفعاله أنه تسلم المارستان العضدي، وكان قد دثر واستولى عليه الخراب، فجد في عمارته، وجعل فيه ثمانية وعشرين طبيباً، وثلاثة من الخزان، إلى غير ذلك، واشترى له الأملاك النفيسة، بعد أن كان ليس به طبيب ولا دواء، وكان كثير المعروف والصلات والخير، ولم يكن يلقب في زمانه أحد بالشيخ الأجل سواه.
وفي المحرم أيضاً توفي أبو جعفر الطوسي، فقيه الإمامية، بمشهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، عليه السلام. ثم دخلت:

.سنة إحدى وستين وأربعمائة:

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة، في صفر، أعيد فخر الدولة بن جهير إلى وزارة الخليفة، على ما ذكرناه، فلما عاد مدحه ابن الفضل فقال:
قد رجع الحق إلى نصابه، ** وأنت من كل الورى أولى به

ما كنت إلا السيف سلته يد، ** ثم أعادته إلى قرابه

وهي طويلة.
وفي شعبان احترق جامع دمشق. وكان سبب احتراقه أنه وقع بدمشق حرب بين المغاربة أصحاب المصريين والمشارقة، فضربوا داراً مجاورة للجامع بالنار، فاحترقت، واتصلت بالجامع، وكانت العامة تعين المغاربة، فتركوا القتال واشتغلوا بإطفاء النار من الجامع، فعظم الخطب واشتد الأمر، وأتى الحريق على الجامع، فدثرت محاسنه، وزال ما كان فيه من الأعمال النفيسة. ثم دخلت:

.سنة اثنتين وستين وأربعمائة:

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة أقبل ملك الروم من القسطنطينية في عسكر كثيف إلى الشام، ونزل على مدينة منبج ونهبها وقتل أهلها، وهزم محمود بن صالح بن مرداس، وبني كلاب، وابن حسان الطائي، ومن معهما من جموع العرب، ثم إن ملك الروم ارتحل وعاد إلى بلاده، ولم يمكنه المقام لشدة الجوع.
وفيها سار أمير الجيوش بدر من مصر في عساكر كثيرة إلى مدينة صور وحصرها، وكان قد تغلب عليها القاضي عين الدولة بن أبي عقيل، فلما حصره أرسل القاضي إلى الأمير قرلوا، مقدم الأتراك المقيمين بالشام، يستنجده، فسار في اثني عشر ألف فارس، فحصر مدينة صيدا، وهي لأمير الجيوش بدر، فرحل حينئذ بدر، فعاد الأتراك، فعاود بدر حصر صور براً وبحراً سنة، وضيق على أهلها حتى أكلوا الخبز كل رطل بنصف دينار، ولم يبلغ غرضه فرحل عنها.
وفيها صارت دار ضرب الدنانير ببغداد في يد وكلاء الخليفة، وسبب ذلك أن البهرج كثر في أيدي الناس على السكك السلطانية، وضرب اسم ولي العهد على الدينار، وسمي الأميري، ومنع من التعامل بسواه.
وفيها ورد رسول صاحب مكة محمد بن أبي هاشم، ومعه ولده، إلى السلطان ألب أرسلان، يخبره بإقامة الخطبة للخليفة القائم بأمر الله وللسلطان بمكة، وإسقاط خطبة العلوي، صاحب مصر، وترك الأذان بحي على خير العمل، فأعطاه السلطان ثلاثين ألف دينار، وخلعاً نفيسة، وأجرى له كل سنة عشرة آلاف دينار، وقال: إذا فعل أمير المدينة مهنأ كذلك، أعطيناه عشرين ألف دينار، وكل سنة خمسة آلاف دينار.
وفيها تزوج عميد الدولة بن جهير بابنة نظام الملك بالري وعاد إلى بغداد.
وفيها، في شهر رمضان، توفي تاج الملوك هزراسب بن بنكير بن عياض بأصبهان وهو عائد من عند السلطان إلى خوزستان، وكان قد علا أمره، وتزوج بأخت السلطان، وبغى على نور الدولة دبيس بن مزيد، وأغرى السلطان به ليأخذ بلاده، فلما مات سار دبيس إلى السلطان، ومعه شرف الدولة مسلم، صاحب الموصل، فخرج نظام الملك فلقيهما، وتزوج شرف الدولة بأخت السلطان التي كانت امرأة هزارسب، وعادا إلى بلادهما من همذان.
وفيها كان بمصر غلاء شديد، ومجاعة عظيمة، حتى أكل الناس بعضهم بعضاً، وفارقوا الديار المصرية، فورد بغداد منهم خلق كثير هرباً من الجوع، وورد التجار، ومعهم ثياب صاحب مصر وآلاته، نهبت من الجوع، وكان فيها أشياء كثيرة نهبت من دار الخلافة وقت القبض على الطائع لله سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة، ومما نهب أيضاً في فتنة البساسيري وخرج من خزائنهم ثمانون ألف قطعة بلور كبار، وخمسة وسبعون ألف قطعة من الديباج القديم، وأحد عشر ألف كزاغند، وعشرون ألف سيف محلى، وقال ابن الفضل يمدح القائم بأمر الله، ويذكر الحال بقصيدة فيها:
قد علم المصري أن جنوده ** سنو يوسف منها، وطاعون عمواس

أقامت به حتى استراب بنفسه، ** وأوجس منه خيفة أي إيجاس

في أبيات.
وفيها توفي أبو الجوائز الحسن بن علي بن محمد الواسطي، كان أديباً، شاعراً، حسن القول، فمن قوله:
واحسرتي من قولها ** خان عهودي ولها

وحق من صيرني ** وقفاً عليها ولها

ما خطرت بخاطري ** إلا كستني ولها

وتوفي محمد بن أحمد أبو غالب بن بشران الواسطي الأديب، وانتهت الرحلة إليه في الأدب، وله شعر، فمنه في الزهد:
يا شائداً للقصور كهلاً ** أقصر، فقصر الفتى الممات

لم يجتمع شمل أهل قصر، ** إلا قصاراهم الشتات

وإنما العيش مثل ظل، ** منتقل ما له ثبات

وفيها توفي القاضي أبو الحسين محمد بن إبراهيم بن حزم، قاضي دمشق، وأبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي العجائز، الخطيب بدمشق. ثم دخلت:

.سنة ثلاث وستين وأربعمائة:

.ذكر الخطبة للقائم بأمر الله والسلطان بحلب:

في هذه السنة خطب محمود بن صالح بن مرداس بحلب لأمير المؤمنين القائم بأمر الله، وللسلطان ألب أرسلان.
وسبب ذلك أنه رأى إقبال دولة السلطان، وقوتها، وانتشار دعوتها، فجمع أهل حلب وقال: هذه دولة جديدة، ومملكة شديدة، ونحن تحت الخوف منهم، وهم يستحلون دماءكم لأجل مذاهبكم، والرأي أن نقيم الخطبة قبل أن يأتي وقت لا ينفعنا فيه قول ولا بذل فأجاب المشايخ ذلك، ولبس المؤذنون السواد، وخطبوا للقائم بأمر الله والسلطان، فأخت العامة حصر الجامع، وقالوا: هذه حصر علي بن أبي طالب، فليأت أبو بكر بحصر يصلي عليها الناس.
وأرسل الخليفة إلى محمود الخلع مع نقيب النقباء طراد بن محمد الزينبي، فلبسها، ومدحه ابن سنان الخفاجي، وأبو الفتيان بن حيوس، وقال أبو عبد الله بن عطية يمدح القائم بأمر الله، ويذكر الخطبة بحلب ومكة والمدينة:
كم طائع لك لم تجلب عليه، ولم ** تعرف لطاعته غير التقى سببا

هذا البشير بإذعان الحجاز، وذا ** داعي دمشق وذا المبعوث من حلبا

.ذكر استيلاء السلطان أرسلان على حلب:

في هذه السنة سار السلطان ألب أرسلان إلى حلب، وجعل طريقه على ديار بكر، فخرج إليه صاحبها، نصر بن مروان، وخدمه بمائة ألف، وحمل إليه إقامة عرف السلطان أنه قسطها على البلاد، فأمر بردها.
ووصل إلى آمد فرآها ثغراً منيعاً، فتبرك به، وجعل يمر يده على السور ويمسح بها صدره.
وسار إلى الرها فحصرها فلم يظفر منها بطائل، فسار إلى حلب وقد وصلها نقيب النقباء أبو الفوراس طراد بالرسالة القائمية، والخلع، فقال له محمود، صاحب حلب: أسألك الخروج إلى السلطان، والاستعفاء لي من الحضور عنده، فخرج نقيب النقباء، وأخبر السلطان بأنه قد لبس الخلع القائمية وخطب فقال: أي شيء تساوي خطبتهم وهم يؤذنون حي على خير العمل؟ ولا بد من الحضور، ودوس بساطي، فامتنع محمود من ذلك.
فاشتد الحصار على البلد، وغلت الأسعار، وعظم القتال، وزحف السلطان يوماً وقرب من البلد، فوقع حجر منجنيق في فرسه، فلما عظم الأمر على محمود خرج ليلاً، ومعه والدته منيعة بنت وثاب النميري، فدخلا على السلطان وقالت له: هذا ولدي، فافعل به ما تحب. فتلقاهما بالجميل، وخلع على محمود وأعاده إلى بلده، فأنفذ إلى السلطان مالاً جزيلاً.

.ذكر خروج ملك الروم إلى خلاط:

في هذه السنة خرج أرمانوس ملك الروم في مائتي ألف من الروم، والفرنج، والغرب، والروس، والبجناك، والكرج، وغيرهم، من طوائف تلك البلاد، فجاؤوا في تجمل كثير، وزي عظيم، وقصد بلاد الإسلام، فوصل إلى ملازكرد من أعمال خلاط. فبلغ السلطان ألب أرسلان الخبر، وهو بمدينة خوي من أذربيجان، قد عاد من حلب، وسمع ما هو ملك الروم فيه من كثرة الجموع، فلم يتمكن من جمع العساكر لبعدها وقرب العدو، فسير الأثقال مع زوجته ونظام الملك إلى همذان، وسار هو فيمن عنده من العساكر، وهم خمسة عشر ألف فارس. وجد في السير، وقال لهم: أنني أقاتل محتسباً صابراً، فإن سلمت فنعمة من الله تعالى، وإن كانت الشهادة فإن ابني ملكشاه ولي عهدي، وساروا.
فلما قارب العدو جعل له مقدمة، فصادفت مقدمته، عند خلاط، مقدم الروسية في نحو عشرة آلاف من الروم، فاقتتلوا، فانهزمت الروسية، وأسر مقدمهم، وحمل إلى السلطان، فجدع أنفه، وأنفذ بالسلب إلى نظام الملك، وأمره أن يرسله إلى بغداد، فلما تقارب العسكران أرسل السلطان إلى ملك الروم يطلب منه المهادنة، فقال: لا هدنة إلا بالري، فانزعج السلطان لذلك، فقال له إمامه وفقيهه أبو نصر محمد بن عبد الملك البخاري، الحنفي: إنك تقاتل عن دين وعد الله بنصره وإظهاره على سائر الأديان، وأرجو أن يكون الله تعالى قد كتب باسمك هذا الفتح، فالقهم يوم الجمعة، بعد الزوال، في الساعة التي تكون الخطباء على المنابر، فإنهم يدعون للمجاهدين بالنصر، والدعاء مقرون بالإجابة.
فلما كانت تلك الساعة صلى بهم، وبكى السلطان، فبكى الناس لبكائه، ودعا ودعوا معه، وقال لهم: من أراد الانصراف فلينصرف، فما هاهنا سلطان يأمر وينهى، وألقى القوس والنشاب، وأخذ السيف والدبوس، وعقد ذنب فرسه بيده، وفعل عسكره مثله، ولبس البياض، وتحنط، وقال: إن قتلت فهذا كفني.
وزحف إلى الروم، وزحفوا إليه، فلما قاربهم ترجل وعفر وجهه على التراب، وبكى، وأكثر الدعاء، ثم ركب وحمل وحملت العساكر معه، فحصل المسلمون في وسطهم وحجز الغبار بينهم، فقتل المسلمون فيهم كيف شاؤوا، وأنزل الله نصره عليهم، فانهزم الروم، وقتل منهم ما لا يحصى، حتى امتلأت الأرض بجثث القتلى، وأسر ملك الروم، أسره بعض غلمان كوهارائين، أراد قتله ولم يعرفه، فقال له خادم مع الملك: لاتقتله، فإنه الملك.
وكان هذا الغلام قد عرضه كوهرائين على نظام الملك، فرده استحقاراً له، فأثنى عليه كوهرائين، فقال نظام الملك: عسى أن يأتينا بملك الروم أسيراً، فكان كذلك.
فلما أسر الغلام الملك أحضره عند كوهرائين، فقصد السلطان وأخبره بأسر الملك، فأمر بإحضاره، فلما أحضر ضربه السلطان ألب أرسلان ثلاث مقارع بيده وقال له: ألم أرسل إليك في الهدنة فأبيت؟ فقال: دعني من التوبيخ، وافعل ما تريد! فقال الس: ما عزمت أن تفعل بي إن أسرتني؟ فقال: أفعل القبيح. قال له: فما تظن أنني أفعل بك؟ قال: إما أن تقتلني، وإما أن تشهرني في بلاد الإسلام، والأخرى بعيدة، وهي العفو، وقبول الأموال، واصطناعي نائباً عنك. قال: ما عزمت على غير هذا.
ففداه بألف ألف دينار وخمس مائة ألف دينار، وأن يرسل إليه عساكر الروم أي وقت طلبها، وأن يطلق كل أسير في بلاد الروم، واستقر الأمر على ذلك، وأنزله في خيمة، وأرسل إليه عشرة آلاف دينار يتجهز بها، فأطلق له جماعة من البطارقة، وخلع عليه من الغد، فقال ملك الروم: أين جهة الخليفة؟ فدل عليها، فقام وكشف رأسه وأومأ إلى الأرض بالخدمة، وهادنه السلطان خمسين سنة، وسيره إلى بلاده، وسير معه عسكراً أوصلوه إلى مأمنه، وشيعه السلطان فرسخاً.
وأما الروم فلما بلغهم خبر الوقعة وثب ميخائيل على المملكة فملك البلاد، فلما وصل أرمانوس الملك إلى قلعة دوقية بلغه الخبر، فلبس الصوف وأظهر الزهد، وأرسل إلى ميخائيل يعرفه ما تقرر مع السلطان، وقال: إن شئت أن تفعل ما استقر، وإن شئت أمسكت، فأجابه ميخائيل بإيثار ما استقر، وطلب وساطته، وسؤال السلطان في ذلك.
وجمع أرمانوس ما عنده من المال فكان مائتي ألف دينار، فأرسله إلى السلطان، وطبق ذهب عليه جواهر بتسعين ألف دينار، وحلف له أنه لا يقدر على غير ذلك، ثم إن أرمانوس استولى على أعمال الأرمن وبلادهم. ومدح الشعراء السلطان، وذكروا هذا الفتح، فأكثروا.